فصل: (سورة البقرة: الآيات 37- 39):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة البقرة: الآية 30]:

{وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.
{وَإِذْ} نصب بإضمار اذكر. ويجوز أن ينتصب بقالوا. والملائكة: جمع ملأك على الأصل، كالشمائل في جمع شمأل. وإلحاق التاء لتأنيث الجمع. وجاعِلٌ من جعل الذي له مفعولان، دخل على المبتدأ والخبر وهما قوله: {في الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فكانا مفعوليه.
ومعناه مُصير في الأرض خليفة. والخليفة: من يخلف غيره. والمعنى خليفة منكم، لأنهم كانوا سكان الأرض فخلفهم فيها آدم وذرّيته. فإن قلت: فهلا قيل: خلائف، أو خلفاء؟
قلت: أريد بالخليفة آدم، واستغنى بذكره عن ذكر بنيه كا استغنى بذكر أبى القبيلة في قولك: مضر وهاشم. أو أريد من يخلفكم، أو خلفا يخلفكم فوحد لذلك. وقرئ: خليقة بالقاف ويجوز أن يريد: خليفة منى، لأنّ آدم كان خليفة اللَّه في أرضه وكذلك كل نبىّ {إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ}.
فإن قلت: لأى غرض أخبرهم بذلك؟ قلت: ليسألوا ذلك السؤال ويجابوا بما أجيبوا به فيعرفوا حكمته في استخلافهم قبل كونهم، صيانة لهم عن اعتراض الشبهة في وقت استخلافهم. وقيل ليعلم عباده المشاورة في أمورهم قبل أن يقدموا عليها، وعرضها على ثقاتهم ونصحائهم، وإن كان هو بعلمه وحكمته البالغة غنيا عن المشاورة أَتَجْعَلُ فِيها تعجب من أن يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية وهو الحكيم الذي لا يفعل إلا الخير ولا يريد إلا الخير. فإن قلت: من أين عرفوا ذلك حتى تعجبوا منه وإنما هو غيب؟ قلت: عرفوه بإخبار من اللَّه، أو من جهة اللوح، أو ثبت في علمهم أنّ الملائكة وحدهم هم الخلق المعصومون، وكل خلق سواهم ليسوا على صفتهم: أو قاسوا أحد الثقلين على الآخر حيث أسكنوا الأرض فأفسدوا فيها قبل سكنى الملائكة. وقرئ: يسفك، بضم الفاء. ويُسفك.
ويَسفك، من أسفك. وسفك. والواو في وَنَحْنُ للحال، كما تقول: أتحسن إلى فلان وأنا أحق منه بالإحسان. والتسبيح: تبعيد اللَّه عن السوء، وكذلك تقديسه، من سبح في الأرض والماء. وقدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد. وبِحَمْدِكَ في موضع الحال، أى نسبح حامدين لك وملتبسين بحمدك لأنه لولا إنعامك علينا بالتوفيق واللطف لم نتمكن من عبادتك. أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ أى أعلم من المصالح في ذلك ما هو خفى عليكم.
فإن قلت: هلا بين لهم تلك المصالح؟ قلت: كفى العباد أن يعلموا أن أفعال اللَّه كلها حسنة وحكمة، وإن خفى عليهم وجه الحسن والحكمة. على أنه قد بين لهم بعض ذلك فيما أتبعه من قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها} واشتقاقهم آدم من الأدمة، ومن أديم الأرض، نحو اشتقاقهم يعقوب من العقب، وإدريس من الدرس، وإبليس من الإبلاس. وما آدم إلا اسم أعجمى: وأقرب أمره أن يكون على فاعل، كآزر، وعازر، وعابر وشالخ. وفالغ، وأشباه ذلك {الْأَسْماءَ كُلَّها} أى أسماء المسميات.
فهذه نبذة من مسألة الاسم والمسمى تختص بهذه الآية. وفيها إن شاء اللَّه كفاية على أنها وإن عدها المتكلمون من فن الكلام، فالعالب عليها أنها مسألة لفظية لا يرجع اختلاف الأشعرية والمعتزلة فيها إلى كثير من حيث الحقيقة، فحذف المضاف إليه لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء، لأن الاسم لا بدله من مسمى، وعوض منه اللام كقوله: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ}.
فإن قلت: هلا زعمت أنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وأن الأصل: وعلم آدم مسميات الأسماء؟ قلت: لأن التعليم وجب تعليقه بالأسماء لا بالمسميات لقوله: {أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ} {أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ} فكما علق الإنباء بالأسماء لا بالمسميات ولم يقل: أنبؤنى بهؤلاء، وأنبئهم بهم، وجب تعليق التعليم بها. فان قلت: فما معنى تعليمه أسماء المسميات؟ قلت: أراه الأجناس التي خلقها، وعلمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية ثُمَّ عَرَضَهُمْ أى عرض المسميات. وإنما ذكر لأن في المسميات العقلاء فغلبهم. وإنما استنبأهم وقد علم عجزهم عن الإنباء على سبيل التبكيت إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنى في زعمكم أنى أستخلف في الأرض مفسدين سفاكين للدماء إرادة للرد عليهم، وأن فيمن يستخلفه من الفوائد العلمية التي هي أصول الفوائد كلها، ما يستأهلون لأجله أن يستخلفوا. فأراهم بذلك وبين لهم بعض ما أجمل من ذكر المصالح في استخلافهم في قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ}. وقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} استحضار لقوله لهم {إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ} إلا أنه جاء به على وجه أبسط من ذلك وأشرح.
وقرئ: وعُلم آدم، على البناء للمفعول. وقرأ عبد اللَّه: عرضهن. وقرأ أُبىّ: عرضها. والمعنى عرض مسمياتهن أو مسمياتها: لأن العرض لا يصح في الأسماء. وقرئ: أنبيهم، بقلب الهمزة ياء.
وأنبهم، بحذفها والهاء مكسورة فيهما.

.[سورة البقرة: الآيات 34- 36]:

{وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36)}.
السجود للَّه تعالى على سبيل العبادة، ولغيره على وجه التكرمة كما سجدت الملائكة لآدم، وأبو يوسف وإخوته له؟ ويجوز أن تختلف الأحوال والأوقات فيه.
وقرأ أبو جعفر {للملائكة اسجدوا} بضم التاء للاتباع. ولا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الإتباع إلا في لغة ضعيفة، كقولهم: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل، لأنه كان جنيًا واحدًا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورًا بهم، فغلبوا عليه في قوله: {فَسَجَدُوا} ثم استثنى منهم استثناء واحد منهم. ويجوز أن يجعل منقطعا أَبى امتنع مما أمر به وَاسْتَكْبَرَ عنه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ من جنس كفرة الجن وشياطينهم، فكذلك أبى واستكبر كقوله: {كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}. السكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار. وأَنْتَ تأكيد للمستكن في: {اسْكُنْ} ليصح العطف عليه.
ورَغَدًا وصف للمصدر، أى أكلا رغدًا واسعا رافها. وحَيْثُ للمكان المبهم، أى: أىّ مكان من الجنة شِئْتُما أطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة المزيحة للعلة، حين لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول من شجرة واحدة بين أشجارها الفائتة للحصر، وكانت الشجرة فيما قيل الحنطة أو الكرمة أو التينة وقرئ: {ولا تِقربا} بكسر التاء. وهذى، والشجرة، بكسر الشين. والشيرة بكسر الشين والياء. وعن أبى عمرو أنه كرهها، وقال: يقرأ بها برابرة مكة وسودانها. مِنَ الظَّالِمِينَ من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية اللَّه فَتَكُونا جزم عطف على: {تَقْرَبا} أو نصب جواب للنهى. الضمير في: {عَنْها} للشجرة. أى فحملهما الشيطان على الزلة بسببها. وتحقيقه: فأصدر الشيطان زلتهما عنها. وعن هذه، مثلها في قوله تعالى: {وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي}. وقوله:
يَنهَوْنَ عَنْ أَكْلٍ وعَنْ شُرْبِ

وقيل: فأزلهما عن الجنة بمعنى أذهبهما عنها وأبعدهما، كما تقول: زلّ عن مرتبته. وزل عنى ذاك: إذا ذهب عنك وزل من الشهر كذا. وقرئ: فأزالهما. مِمَّا كانا فِيهِ من النعيم والكرامة.
أو من الجنة إن كان الضمير للشجرة في عنها. وقرأ عبد اللَّه: فوسوس لهما الشيطان عنها. وهذا دليل على أن الضمير للشجرة، لأن المعنى صدرت وسوسته عنها. فان قلت: كيف توصل إلى إزلالهما ووسوسته لهما بعد ما قيل له {فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ}. قلت: يجوز أن يمنع دخولها على جهة التقريب والتكرمة كدخول الملائكة، ولا يمنع أن يدخل على جهة الوسوسة ابتلاء لآدم وحواء.
وقيل كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل: قام عند الباب فنادى. وروى أنه أراد الدخول فمنعته الخزنة، فدخل في فم الحية حتى دخلت به وهم لا يشعرون. قيل اهْبِطُوا خطاب لآدم وحواء وإبليس: وقيل والحية. والصحيح أنه لآدم وحواء والمراد هما وذريتهما، لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله: {قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}. ويدل على ذلك قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}. وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. ومعنى بعضكم لبعض عَدُوٌّ ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. والهبوط: النزول إلى الأرض مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار، أو استقرار ومَتاعٌ وتمتع بالعيش إِلى حِينٍ يريد إلى يوم القيامة. وقيل إلى الموت.

.[سورة البقرة: الآيات 37- 39]:

{فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)}.
معنى تلقى الكلمات استقبالها بالأخذ والقبول والعمل بها حين علمها. وقرئ بنصب آدم ورفع الكلمات: على أنها استقبلته بأن بلغته واتصلت به. فإن قلت: ما هنّ؟ قلت: قوله تعالى: {رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا}.. الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه: «إن أحب الكلام إلى اللَّه ما قاله أبونا آدم حين اقترف الخطيئة: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك، لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت». وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ في الروح من روحك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعى أنت إلى الجنة؟ قال: نعم» واكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء، لأنها كانت تبعا له، كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك. وقد ذكرها في قوله: {قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا}. فَتابَ عَلَيْهِ فرجع عليه بالرحمة والقبول. فإن قلت: لم كرر: {قُلْنَا اهْبِطُوا}؟ قلت: للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}. فإن قلت: ما جواب الشرط الأول؟ قلت: الشرط الثاني مع جوابه كقولك: إن جئتني فان قدرت أحسنت إليك. والمعنى: فإما يأتينكم منى هدى برسول أبعثه إليكم وكتاب أنزله عليكم بدليل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا} في مقابلة قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ} فإن قلت: فلم جيء بكلمة الشك وإتيان الهدى كائن لا محالة لوجوبه؟ قلت: للإيذان بأنّ الإيمان باللَّه والتوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل وإنزال الكتب، وأنه إن لم يبعث رسولا ولم ينزل كتابا، كان الإيمان به وتوحيده واجبًا لما ركب فيهم من العقول ونصب لهم من الأدلة ومكنهم من النظر والاستدلال. فإن قلت: الخطيئة التي أهبط بها آدم إن كانت كبيرة فالكبيرة لا تجوز على الأنبياء، وإن كانت صغيرة، فلم جرى عليه ما جرى بسببها من نزع اللباس والإخراج من الجنة والإهباط من السماء، كما فعل بإبليس ونسبته إلى الغىّ والعصيان ونسيان العهد وعدم العزيمة والحاجة إلى التوبة؟ قلت: ما كانت إلا صغيرة مغمورة بأعمال قلبه من الإخلاص والأفكار الصالحة التي هي أجل الأعمال وأعظم الطاعات. وإنما جرى عليه ما جرى، تعظيما للخطيئة وتفظيعًا لشأنها وتهويلا، ليكون ذلك لطفًا له ولذرّيته في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم، والتنبيه على أنه أخرج من الجنة بخطيئة واحدة، فكيف يدخلها ذو خطايا جمة. وقرئ: فمن تبع هُدَىَّ، على لغة هذيل، فلا خوف- بالفتح. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}.
التفسير:
لما خصص الله تعالى أبانا آدم بالخلافة ثم علمه من العلوم ما ظهر بذلك مزيته على جميع الملائكة، اقتضت حكمته البالغة أن جعله مسجودًا لهم وهذا مقتضى النسق هاهنا ظاهر إلا أن قوله تعالى في موضع آخر {فإذا سويته فيه من روحي فقعوا له ساجدين} [ص: 72] يقتضي أن يكون الأمر بالسجود قبل تسوية خلقه، وأنه كما صار حيًا صار مسجودًا لهم. وتعليم الأسماء ومناظرته مع الملائكة في ذلك حصل بعد سجدتهم. والله أعلم بذلك.
ثم إن المسلمين أجمعوا على أن ذلك السجود لم يكن للعبادة لأنه تعالى لا يأمر بالكفر والعبادة لغيره كفر، فزعم بعض أن السجود كان لله تعالى وآدم كالقبلة. فقوله: {اسجدوا لآدم} مثل قولك صل للقبلة قال حسان بن ثابت:
ما كنت أعرف أن الأمر منصرف ** عن هاشم ثم منها عن أبي حسن

أليس أول من صلى لقبلتكم ** وأعرف الناس بالقرآن والسنن

وهو ضعيف لأن المقصود من هذه القسة شرح تعظيم آدم، وجعله مجرد القبلة لا يفيد كونه أعظم حالًا من الساجد. وزعم آخرون أن المراد بالسجود الانقياد والخضوع كما هو مقتضى أصل اللغة مثل {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] وزيف بأنه في عرف الشرع عبارة عن وضع الجبهة على الأرض، فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك، لأن الأصل عدم التغيير. وأصح الأقوال أن السجود كان بمعنى وضع الجبهة ولكن لا عبادة بل تكرمة وتحية كالسلام منهم عليه، وقد كانت الأمم السالفة تفعل ذلك بدل التسليم. قال قتادة في قوله: {وخروا له سجدًا} [يوسف: 100] كان تحية الناس يومئذ سجود بعضهم لبعض، ويجوز أن تختلف الرسوم والعادات باختلاف الأزمنة والأوقات. واختلف في أن إبليس من الملائكة أم لا. فقال أكثر المتكلمين لاسيما المعتزلة: إنه لم يكن منهم. وقال كثير من الفقهاء: إنه كان منهم حجة الأولين أنه من الجن لقوله تعالى في الكهف {إلا إبليس كان من الجن} [الآية: 50] فلا يكون من الملائكة. وأيضًا قال: {ويوم نحشرهم جميعًا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن} [سبأ: 40] ورد الأول بأن الجن قد يطلق على الملك لاستتاره عن العيون، وبأن كان يحتمل أن تكون بمعنى صار. والثاني بأنه لا يلزم من كون الجن في هذه الآية نوعًا مغايرًا للملائكة أن يكون في الآية الأولى أيضًا مغايرًا، لاحتمال كونه على مقتضى أصل اللغة وهو الاستتار. وقالوا: إن إبليس له ذرية لقوله تعالى: {أتتخذونه وذريته أولياء من دوني} [الكهف: 50] والملائكة لا ذرية لها لأنها تحصل من الذكر والأنثى ولا إناث فيهم لقوله: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثًا} [الزخرف: 19] منكرًا عليهم وأيضًا الملائكة معصومون لما سلف، وإبليس لم يكن كذلك. وأيضًا إنه من النار {خلقتني من نار} [ص: 76] وأنهم من نور لقوله صلى الله عليه وسلم: «خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج من نار» رواه الزهري عن عروة عن عائشة. ومن المشهور الذي لا يدفع أن الملائكة روحانيون، فقيل سموا بذلك لأنهم من الريح أو من الروح. وأيضًا الملائكة رسل {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] ورسل الله معصومون {الله أعلم حيث يجعل رسالته} [الأنعام: 124] حجة الآخرين أنه استثناه من الملائكة، وحمله على المتصل أولى، لأن تخصيص العمومات في كتاب الله أكثر من الاستثناء المنقطع. قيل: إنه جني واحد مغمور بين ظهراني ألوف من الملائكة فغلبوا عليه، وهذا لا ينافي كون الاستثناء متصلًا. وأجيب بأن التغليب إنما يصار إليه إذا كان المغلوب ساقطًا عن درجة الاعتبار، أما إذا كان معظم الحديث فيه فلا يصار إلى التغليب.
وأيضًا لو لم يكن من الملائكة لم يتناوله الخطاب ب {اسجدوا} وحينئذ لم يستحق بترك السجود لومًا وتعنيفًا، ولا يمكن أن يقال إنه نشأ معهم والتصق بهم فتناوله الأمر لما بين في أصول الفقه أن خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدة المخالطة بين الصنفين، ولا أن يقال إنه وإن لم يدخل في هذا الأمر إلا أنه تعالى أمره بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} [الأعراف: 12] لأن قوله: {أبى واستكبر} عقيب قوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا} مشعر بأن المخالفة بسبب هذا الأمر، هذا ما قيل عن الجانبين. ومما يناسب تفسير الآية الكلام في أن الأنبياء أفضل من الملائكة أم بالعكس، قال أكثر أهل السنة بالأول، ومالت المعتزلة والشيعة إلى الثاني، واختاره الباقلاني وأبو عبد الله الحليمي من فقهاء أهل السنة.
المعتزلة احتجوا بأمور: أحدها {ومن عنده لا يستكبرون} [الأنبياء: 19] وليس المراد عندية المكان والجهة بل عندية القرب والشرف. وعورض بما حكى عنه سبحانه: «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» بل هذا أبلغ لأن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عنده. قالوا: الآية تدل على أنه تعالى يقول الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض والآفات، لا يتركون العبودية لحظة واحدة، فالبشر مع غاية ضعفهم وقصورهم أولى بذلك. وأجيب بأنه لا نزاع في ذلك، وإنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب.
الثانية: عباداتهم من عبادات البشر فيكون ثوابهم أكثر لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة «أجرك على قدر نصيبك» ولقوله: «أفضل العبادات أجزها» أي أشقها. وأما بيان أن عباداتهم أشق فمن وجهين: أحدهما أنهم سكان السموات وهي جنان ومنتزهات وهم مع ذلك لا يلتفتون إلى نعيمها ويقبلون على طاعاتهم خائفين وجلين وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يومًا واحدًا فضلًا عن تلك الأعصار المتطاولة {إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى} [العلق: 6، 7] ويؤكده قصة آدم فإنه أطلق له في الجنة جميعها إلا شجرة واحدة ومع ذلك لم يملك نفسه، والثاني أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من طعام إلى طعام، والإقامة على نوع واحد تورث السآمة وهذا شأن الملائكة {وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون} [الصافات: 165، 166] ومنهم ركوع ومنهم سجود منذ خلقوا. وعورض الوجه الأول بأن أسباب البلاء مجتمعة على البشر، ثم إنهم راضون بقضاء الله مواظبون على تكاليفهم، ولذلك كان العبيد والخدم تطيب قلوبهم بالخدمة حال الرفاهية، ولا يصبر أحد منهم على مشقة الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص.
والثاني بأن العادة طبيعية خامسة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «أفضل الصوم صوم داود كان يصوم يومًا ويفطر يومًا».
الثالثة: عباداتهم أدوم {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وخير الأعمال أدومها، مع أن أعمارهم أكثر. وعلى الآية سؤال. روي عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال: قلت لكعب: أرأيت قول الله عز وجل: {لا يفترون} [الأنبياء: 20] ثم قال: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] أولئك عليهم لعنة الله والملائكة، أفلا تكون الرسالة واللعن مانعين عن التسبيح؟ فأجاب بأن التنفس لا يمنعنا من الاشتغال بشيء آخر، فكذلك التسبيح لهم. وزيف بأن آلة النفس فينا غير آلة الكلام، وأما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام، فاجتماعهما في آلة واحدة محال. وأجيب باحتمال أن يكون لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداءه ببعض آخر، وبأن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي، أو المراد لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال: فلان يواظب على الجماعات. يعنون أنه عازم على أدائها في أوقاتها. ونوقضت الحجة بأن الطاعة القليلة من الإنسان قد تقع على وجه يستحق بها ثوابًا من ثواب طاعاتهم.
الرابعة: أنهم أسبق السابقين في كل العبادات {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10، 11] «من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها».
الخامسة: الملائكة رسل إلى الأنبياء {علمه شديد القوى} [النجم: 5] {نزل به الروح الأمين} [الشعراء: 193] والرسول أفضل من الأمة قياسًا على الشاهد. ومنع بأن هذا إذا كان الرسول حاكمًا على المرسل إليهم ومتوليًا لأمورهم كالأنبياء المبعوثين إلى أممهم، أما في مطلق الرسول فلم قلتم إنه كذلك كما لو أرسل الملك عبدًا من عبيده إلى وزيره أو إلى ملك آخر.
السادسة: أنهم أتقى من البشر لدوام خوفهم {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] مع وجود شهوة الترفع والرياسة فيهم ولهذا قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها} وإن لم يكن لهم شهوة الأكل والوقاع، فوجب أن يكونوا أفضل {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] ورد بأن تقوى الإنسان أكمل فإن لهم مع شهوة الرياسة شهوة البطن والفرج أيضًا.
السابعة: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172] خرج الثاني مخرج التأكيد للأول. ومثل هذا إنما يكون بذكر الأفضل بعد الفاضل. كقولك: هذا العالم لا يستنكف عن خدمة الوزير ولا الملك. فيفيد أفضلية الملائكة المقربين في المعاني المصححة للعبودية من نهاية الخضوع والخشوع ما يتبعها مع شدة بطشهم وقوة حالهم. وعورض بأنه قد يقال هذا العالم لا يستنكف عن خدمة القاضي ولا السلطان، ولا يفيد إلا أن السلطان أكل من القاضي في بعض الأمور كالقوة والقدرة، ولا يدل على كونه أكمل من القاضي في سائر الدرجات كالعلم والزهد.
فلم قلتم: إنهم أفضل من البشر في كثرة الثواب؟ قلت: والحق أن جميع الدرجات مندرجة تحت العبودية كما أشرنا إليه فيما مر، فيفيد أفضلية الملائكة. لكن المقربين منهم فقط دون غيرهم ومفضولية المسيح فقط دون غيرهم كمحمد صلى الله عليه وسلم.
الثامنة: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} [الأعراف: 20] فهذا وإن كان حكاية قول إبليس، إلا أن آدم وحواء لو لم يعتقدا أفضلية الملك لم يغترا بذلك واعتقادهما حجة. ورد بأن آدم لعله أخطأ في ذلك الاعتقاد، إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء، أو لأنه ما كان نبيًا في ذلك الوقت، وأيضًا هب أنه حجة لكنه قبل الزلة لم يكن نبيًا فلا يلزم من مفضوليته وقتئذ مفضوليته وقت نبوته، وإن سلم مفضوليته ونبوته وقتئذ فلا نسلم أن ذلك في باب الثواب بل في باب القدرة والقوة والحسن والجمال. ونحو ذلك فإنهم خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب، فاغتر رغبة فيما لهم من هذه الأمور. وأيضًا يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فيصح استدلالكم، وأن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة الخالدين دونكما كما يقول أحدنا لغيره: ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلانًا. ويكون المعنى أن المنهي عنه هو فلان دونك، فكان غرض إبليس إيهام أنهما لم ينهيا. وأيضًا غاية ما في الباب أن الآية تدل على مفضولية آدم ولا يلزم منه مفضولية جميع الأنبياء كمحمد صلى الله عليه وسلم.
التاسعة: {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} [هود: 31] أي لا أدعي القدرة على كل المقدورات والعلم بكل المعلومات، ولا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علمًا مثل علمهم، وذلك أنه لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض، وإنما نفي أن يكون له مثل ما لهم من الصفات الجسمية والقوى العظيمة. ورد بأنه لا يلزم من عدم الاستواء في كل الصفات حصول الاختلاف في جميعها.
العاشرة: {ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم} [يوسف: 31] ولا يخفى أن التشبيه في السيرة من غض البصر وقمع النفس عن المحرمات بدلالة وصفه بالكرم لا في الصورة. ورد بأن قولها {فذلكن الذي لمتني فيه} [يوسف: 32] كالتصريح بأن مراد النساء تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال، فذلك يظهر عذرها في عشقها. ولئن سلمنا أن التشبيه في الأخلاق المرضية فذلك لا يوجب مفضوليته من جميع الجهات، على أن قول النساء لا يصلح لأن يكون حجة.
الحادية عشرة: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا} [الإسراء: 70] وذلك أن المخلوقات إما غير المكلفين والإنسان أفضل منهم، وإما المكلفون وهم الملائكة والإنس والجن والشياطين.
ولا ريب أن الإنس أفضل من الجن والشياطين، فلو كانوا أفضل من الملك أيضًا لزم كون البشر أفضل من أكل المخلوقات، فينبغي أن يقال: وفضلناهم على جميع من خلقنا. ورد بأن كونه أفضل من كثير لا يدل على أنه ليس بأفضل من الباقي إلا بدليل الخطاب وهو غير حجة. وأيضًا ثبت أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الآخر أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني. وأيضًا الكلام في التفضيل الحاصل بسبب الكرامة المذكورة في أول الآية: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء: 70] ولا يلزم من كون الملك أفضل من البشر في تلك الكرامات وهو حسن الصورة والطهارة واستخراج الأعمال العجيبة أن يكونوا أفضل منهم في الأشياء الموجبة للثواب.
الثانية عشرة: الأنبياء ما استغفروا إلا بدأوا بأنفسهم قال نوح {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا} وقال إبراهيم {رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] ثم قال: {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] وقال لمحمد {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19] والملائكة لم يستغفروا لأنفسهم ولكن طلبوا المغفرة للمؤمنين {فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك} [غافر: 7] ورد بأن هذا لا يدل إلا على صدور الزلة من البشر وعدم صدورها عنهم، وهذا لا يوجب أفضليتهم في القرب والثواب على الإطلاق ومن الناس من قال: استغفارهم للبشر كالعذر عما طعنوا فيهم بقولهم: {أتجعل فيها} [البقرة: 30].
الثالثة عشرة: {وإن عليكم لحافظين} [الانفطار: 10] ويدخل فيه الأنبياء وغيرهم، والحافظ للمكلف عن المعصية أفضل من المحفوظ. وأيضًا جعل كتابتهم حجة للبشر وعليهم فيكونون أفضل. ورد بأن الحافظ والشاهد قد يكون أدود حالًا من المحفوظ والمشهود.
الرابعة عشرة: {يوم يقوم الروح والملائكة صفًا} [النبأ: 38] والمقصود بيان عظمة الله وجلاله. ورد بأن هذا يفيد قوتهم وبطشهم فقط كما يقال: إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك الأطراف. وهذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده.
الخامسة عشرة: {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ولهذا لما قال الشاعر:
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيًا

قال عمر بن الخطاب: لو قدمت الإسلام لأجزتك. ولما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين، وقع التنازع في تقديم الاسم، وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية. ومنع من أن الواو لا تفيد الترتيب، وعورض بتقديم {تبت} على الإخلاص.
السادسة عشرة: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56] جعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وعورض بقوله: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} [الأحزاب: 56] ولا تشريف بل تتشرف الأمة بذلك.
السابعة عشرة: إن جبرائيل أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى وصفه بست من صفات الكمال.
{إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين} [التكوير: 19- 21] ثم وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وما صاحبكم بمجنون} [التكوير: 22] وشتان بين الوصفين. ورد بأنه وإن وصفه هاهنا بهذا القدر لاقتضاء المقام ذلك فقط، فقد وصفه في مواضع أخر بما يليق به {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا} [الأحزاب: 45، 46].
الثامنة عشرة: إن جبريل كان معلمًا للنبي صلى الله عليه وسلم ولغيره من الأنبياء، لا في العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالعقل. كالعلم بذات الله تعالى، بل في العلم بكيفية مخلوقاته وما فيها من العجائب، والعلم بأحوال العرش والكرسي والجنة والنار وأطباق السموات وأصناف الموجودات وأحوال الأمم الخالية والقرون الماضية، والمعلم أفضل {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] ومنع من كون الملائكة أعلم بدليل قصة آدم، ولأن تعليم جبريل كان بالحقيقة تعليم الله تعالى ولم يكن جبريل إلا واسطة، ولئن سلم مزيد علمهم منع كثرة ثوابهم.
التاسعة عشرة: {ومن يقل منهم إني له من دونه فذلك نجزيه جهنم} [الأنبياء: 29] وهذه تدل على أنهم بلغوا في الترفع إلى حد لو خالفوا أمر الله لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية. ورد بأن مزيد قدرتهم لا يوجب مزيد ثوابهم.
العشرون: قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الرب تعالى: «إذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه» وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف. ورد بعد قبول خبر الواحد أنه لا يلزم منه إلا أن الملأ الأعلى خير من ملأ عوام البشر، ولا يلزم من ذلك كونهم أفضل من الأنبياء.
واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة عندهم أفضل من الأرواح الناطقة البشرية لوجوه:
الأول: الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة، والبشر مركب من النفس والبدن، ولكل منهما قوى وأجزاء، والبسيط خير من المركب، لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط. وعورض بأن المستجمع للروحاني والجسماني ينبغي أن يكون أفضل مما له طرف الروحاني فقط، ولهذا جعل أبو البشر مسجودًا للملائكة، وبأن الملائكة ليس لها إلا الاستغراق في مقاماتها النورية. والنفوس البشرية قواها وافية بكلا الطرفين، ومحيطة بضبط أحوال العالمين فتكون أفضل.
الثاني: الجواهر الروحانية بريئة عن الشهوة والغضب المستلزمين للفساد وسفك الدماء بخلاف البشر. ورد بأن الخدمة مع كثرة العلائق أدل على الإخلاص. وأيضًا من البين أن درجتهم حين قالوا {لا علم لنا إلا ما علمتنا} أعلى منها حين قالوا {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة، وهذا في البشر أكثر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حاكيًا عن ربه «أنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين».
الثالث: أنها بريئة من طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكنًا لها بحسب أنواعها المنحصرة في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة» ولا خفاء أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة. ورد بأن بعض الأمور فيها لعلها بالقوة، ولهذا قيل: إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعلقات من القوة إلى الفعل كالتحريكات العارضة لأرواحنا الحاملة لقوى الفكر والتخيل، إلا أن هذا المنع لا يجري في الملائكة المقربين المسماة عندهم بالعقول المجردة، وإنما يجري في النفوس الفلكية.
الرابع: الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن التغير والفناء، والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك. ورد بأنه لا قديم في الوجود إلا الله. ولئن سلم أنها ممكنة الوجود لذاتها فهي واجبة الوجود بمباديها. وعورض بما عليه كثير من المحققين أن النفوس البشرية أيضًا أزلية بمباديها وكانت كالظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم، إلا أن المبدئ الأول أمرها بالنزول إلى عالم الأجساد وشبكات المواد، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها واستحكم إلفها بها، فبعث من تلك الظلال أشرفها وأكملها لتخليص تلك الأرواح عن تلك الشبكات، وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة.
الخامس: الروحانيات نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة. فأين أحدهما من الآخر؟ ورد بأن الشرف عندنا ليس بالمادة وإنما هو بالانقياد لرب العالمين.
السادس: الأرواح السماوية تفضل الأرضية بقوى العلم والعمل، أما الأول فبالاتفاق على إحاطة الأرواح السماوية بالمغيبات، ولأن علومهم فعلية فطرية كلية دائمة تامة، وعلوم البشر بالضد من ذلك. وأما العمل فلقوله: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20] واعترض بأن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع. فلا تكون لذة الملائكة من العلم والعمل كلذة البشر لعروض الفترات لهم في أكثر الأوقات بسبب العلائق الجسمانية والحجب الظلمانية، فهذه المزية من اللذة مما يختص به البشر، ولعل هذا هو المراد من قوله: {إنا عرضنا الأمانة} [الأحزاب: 72] الآية. ولذلك قالت الأطباء: إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب. لكن الحرارة في الدق لما دامت واستقرت بطل الشعور بها، فهذه الحالة ليست للملائكة لأجل الاستمرار ولا لغير الانسان لعدم الاستعداد فكان الإنسان لها بالمرصاد.
السابع: الروحانيات لها قوة على تقليب الأجسام وتصريف الأجرام، وقواهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب. وإنك ترى الخامة اللطيفة تشق الصخرة الصماء، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من الجواهر العلوية، فما ظنك بتلك الجواهر أنفسها والأرواح السفلية ليست كذلك؟ وما يحكى من قوة الشياطين على الأمور الصعاب ممنوع، ولئن سلم فالأرواح العلوية أقدر على ذلك مع أنهم يصرفون قواها إلى منازل العالم السفلي لا فيما هو شر لهم.
واعترض بأنه لا مانع من أن تتفق نفس ناطقة بشرية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف.
الثامن: الملائكة لهم اختيارات فائضة من أنوار جلال الله متوجهة إلى الخيرات، واختيارات البشر مترددة بين جهتي العلو والسفل والخير والشر، وإنما يتوجه إلى الخير بإعانة الملك على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكًا يسدده ويهديه، ويحتمل أن يقال فتكون إذن أعمالهم أشق فيكون ثوابهم أكثر.
التاسع: الأفلاك كالأبدان، والكواكب كالقلوب، والملائكة كالأرواح. فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان. وكما أن اختلافات أحوال الأفلاك مباد لحصول الاختلافات في هذا العالم، فكل أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي، بل تكون عللًا ومبادي لها، فهذه هي الآبار وهناك المنابع والمعادن، فكيف يليق بالعقل ادعاء المساواة فضلًا عن الزيادة. وأجيب بأنه لا مؤثر عندنا إلا الله تعالى.
العاشر: الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها، منها نزلت فتوسخت بأوضار الجسمانيات، ثم تطهرت بالأخلاق الزكية وصعدت إلى عالمها، ومصدر الشيء ومصعده أشرف، منه المبدأ وإليه المنتهى. واعترض بأن هذا مبني على عدم حشر الأجساد ودون ذاك خرط القتاد.
الحادي عشر: أليس أن الأنبياء لا ينطقون إلا عن الوحي؟ أليس أن الملائكة يعينونهم في المضايق ويهدونهم إلى المصالح كما في قصة لوط وكيوم بدر وحنين، وكما في قصة نوح في نجر السفينة؟ فمن أين لكم تفضيل الأنبياء مع افتقارهم إلى الملائكة في كل الأمور؟ وأجيب بأن أول الفكر آخر العمل ولا يلزم من كون الشيء واسطة أفضليته.
الثاني عشر: القسمة العقلية بأن الأحياء إما خيرة محضة وهم الملائكة، أو شريرة محضة وهم الشياطين، أو خيرة من وجه شريرة من وجه آخر وهم البشر، تحكم بأفضلية الملك. وكذا التقسيم بالناطق المائت وهو الإنسان، والناطق غير المائت وهو الملك، والمائت غير الناطق وهي البهائم، يرشد إلى أن الإنسان متوسط الرتبة بين الكمال والنقصان. فالقول: بأنه أفضل قلب للقسمة العقلية ونزاع في ترتيب الوجود. وأجيب بما مر غير مرة من أن النزاع في كثرة الثواب.
حجة القائلين بفضل الأنبياء على الملائكة؛ الأول: أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة، وأمر الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح، والجواب أن القبح العقلي غير ثابت.
الثاني: جعله خليفة له خلافة الولاية كما مر، وخلق الدنيا متعة لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، ولعن إبليس لسبب التكبر عليه، وجعل الملائكة حفظة أولاده ومنزلين لأرزاقهم ومستغفرين لزلاتهم، ومع جميع هذه المناصب يقول: {ولدينا مزيد} فإذن لا نهاية لهذا الشرف والكمال.
الثالث: أنه كان أعلم لقوله: {أنبئهم بأسمائهم} والأعلم أفضل.
الرابع: {أن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} [آل عمران: 33] والعالم كل ما سوى الله تعالى، فيلزم اصطفاؤهم على الملائكة. ولا يشكل هذا بقوله: {يا بني إسرائيل} إلى قوله: {فضلتكم على العالمين} [البقرة: 47] لأن تلك الآية دخلها التخصيص لما يعلم أنهم غير مفضلين على محمد صلى الله عليه وسلم، وههنا لا دليل فوجب إجراؤه على الظاهر من العموم.
الخامس: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] والملائكة من العالمين والتقرير ظاهر.
السادس: عبادة البشر أشق لأن الآدمي له شهوة تدعوه إلى المعصية بخلاف الملائكة، ولأن الآدمي مأمور بالاستنباط والقياس {فاعتبروا يا أولي الأبصار} [الحشر: 2] ولا يخفى ما فيه من المشقة، والملائكة لا يعلمون إلا بالنص {لا علم لنا إلا ما علمتنا} ولما يعرض للآدمي من الشبهات ككون الأفلاك والأنجم أسبابًا للحوادث اليومية فيحتاجون إلى دفعها، والملائكة حيث إنهم يشاهدون عالم الملكوت آمنون من ذلك، ولأن الشيطان مسلط على الآدمي دون الملك، وإذا كانت طاعتهم أشق فيكون ثوابهم أكثر.
السابع: خلق للملائكة عقولًا بلا شهوة، وللبهائم شهوة بلا عقل، وجمع الأمرين للآدمي. ثم إذا غلب هواه عقله صار أدون من البهيمة أولئك {كالأنعام بل هم أضل} [الفرقان: 44]. فإذا غلب عقله هواه وجب أن يصير أشرف من الملك اعتبارًا لأحد الطرفين بالآخر.
الثامن: الملائكة حفظة بني آدم والمحفوظ أعز من الحافظ.
التاسع: روي أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج، ولما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل وقال: لو دنوت أنملة لاحترقت.
العاشر: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن لي وزيرين في السماء ووزيرين في الأرض. أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل، وأما اللذان في الأرض فابو بكر وعمر» فدل على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كالملك وجبريل وميكائيل وزيران، فهذا تمام الكلام في حجج الفريقين، وعليك الاختيار بعقلك دون هواك. ثم إنه تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين وكان من الجائز أن يظن أن به عذرًا بيَّن أنه غير ذي عذر بقوله: {أبى} لأن الإباء هو الامتناع مع الاختيار ولهذا فقد العاطف نحو قولك أبشر بما يسرك عيني تختلج لا تقول فعيني لأنها بيان، ثم إنه جاز أن لا يكون الإباء مع الكبر فعطف عليه {واستكبر} ليعرف أن الإباء منضم إلى الاستكبار، وكان من الجائز أن يظن أن كبره لم يوجب الكفر فأزيل الظن بقوله: {وكان من الكافرين}.
وللعقلاء هاهنا قولان: أحدهما أن إبليس حين اشتغاله بالعبادة كان منافقًا كافرًا، أما عند من يمنع الإحباط فلأن ختمه لما كان على الكفر علم أنه ما كان مؤمنًا قط. وأما عند غيرهم فلما حكاه الشهرستاني في أول الملل والنحل عن شارح الأناجيل الأربعة على شبه منظرة بين إبليس والملائكة بعد الأمر بالسجود قال إبليس لعنه الله: إني سلمت أن الباري تعالى إلهي وإله الخلق عالم قادر حكيم، إلا أن لي على مساق حكمه أسئلة:
الأول: إنه قد علم قبل خلقي أيّ شيء يصدر عني فلم خلقني؟ وما الحكمة في خلقه إياي؟
الثاني: إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته، فلم كلفني بمعرفته وطاعته؟ وما الحكمة في التكليف مع أنه لا ينتفع بطاعة ولا يتضرر بمعصية، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟
الثالث: إذ خلقني وكلفني فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فأطعت وعرفت، فلم كلفني بطاعة آدم والسجود له؟ وما الحكمة في هذا التكليف على الخصوص بعد أن لا يزيد ذلك في معرفتي وطاعتي؟
والرابع: إذ خلقني وكلفني بهذا التكليف على الخصوص فإذا لم أسجد، فلم لعنني وأخرجني من الجنة وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له في ذلك ولي فيه أعظم الضرر؟
والخامس: ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ومن وسوسة آدم بعد أن لو منعني من دخول الجنة استراح مني آدم وبقي خالدًا في الجنة؟
والسادس: إذ خلقني وكلفني عمومًا وخصوصًا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة، وكانت الخصومة بيني وبين آدم، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونني ويؤثر فيهم وسوستي ولا يؤثر فيّ حولهم وقوتهم؟ وما الحكمة في ذلك بعد أن لو خلقهم على الفطرة وأبقاهم على ذلك فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين كان أحرى بالحكمة؟
والسابع: سلمت هذا كله، فلم إن استمهلته أمهلني، وما الحكمة في ذلك بعد أن لو أهلكني في الحال استراح الخلق مني وما بقي شر في العالم؟ ليس بقاء العالم على نظام الخير خيرًا من امتزاجه بالشر؟
فقال شارح الإنجيل: فأوحى الله تعالى إلى الملائكة قولوا له: أما تسليمك الأول أني الهك وإله الخلق فغير صادق ولا مخلص، إذ لو صدقت أني إله العالمين ما احتكمت علي وأنا الله الذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل والخلق مسئولون هذا مذكور في التوراة ومسطور في الإنجيل، وهذه الشبهات بالنسبة إلى أنواع الضلالات كالبذور وليس يعدوها عقائد فرق الزيغ والكفر وإن اختلفت العبارات وتباينت الطرق، ويرجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق، وإلى الجنوح إلى الهوى في مقابلة النص، ولا جواب عنها بالتحقيق إلا الذي ذكره الله تعالى.
فاللعين لما أن حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل، لزمه أن يجري حكم الخالق في الخلق، أو حكم الخالق في الخالق. فالأول غلو كالحلولية وكالغلاة من الشيعة، والثاني تقصير كالمشبهة وصفوا الخالق بصفات الأجسام، وكالخوارج نفوا تحكيم الرجال وقالوا: لا حكم إلا لله كقوله: {أأسجد لبشر خلقته من صلصال} [الحجر: 33] لا أسجد إلا لك. فالشبهات كلها ناشئة من اللعين، وتلك في الأول مصدرها، وهذه في الأخير مظهرها، ولهذا قال تعالى: {ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوّ مبين} [البقرة: 208] وشبه النبي صلى الله عليه وسلم كل فرقة ضالة من هذه الأمة بأمة ضالة من الأمم السالفة فقال: «القدرية مجوس هذه الأمة والمشبهة يهود هذه الأمة، والرافضة- يعني الغلاة- نصارها» وقال صلى الله عليه وسلم: «لتسلكن سبيل الأمم قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» القول الثاني أن إبليس كان مؤمنًا ثم كفر بعد ذلك ثم اختلفوا. فمن قائل معناه وكان من الكافرين في علم الله أي كان الله عالمًا في الأزل بأنه سيكفر.
فصيغة كان متعلقة بالعلم لا بالمعلوم. ومن قائل إن كان بمعنى صار. وقيل: لما كفر في وقت معين بعد أن كان مؤمنًا فبعد لحظة يصدق عليه أنه كان من الكافرين. وإنما حكم بكفره على هذا القول الثاني لاستكباره واعتقاده كونه محقًا في ذلك التمرد بدليل قوله: {أنا خير منه} [ص: 76] وإلا فمجرد المعصية لا يوجب الكفر عندنا وإن كانت كبيرة، وكذا عند المعتزلة لأنه وإن خرج عن الإيمان لم يدخل في الكفر. نعم عند الخوارج الكبيرة موجبة للكفر على الإطلاق. ثم إن قوله: {من الكافرين} هل يدل على وجود جمع من الكفرة قبله حتى يكون هو واحدًا منهم؟ قال قوم: إنه يدل على ذلك لأن كلمة {من} للتبعيض. وإنما يذكر البعض الموجود بالإضافة إلى كل موجود لا إلى كل من سيوجد. ومما يؤكد ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه قال: إنه تعالى خلق خلقًا من الملائكة ثم قال لهم {إني خالق بشرًا من طين} [ص: 71] قالوا: لا تفعل ذلك. فبعث الله نارًا فأحرقتهم. وكان إبليس من أولئك. وقال آخرون: معنى الآية إنه صار من الذين وافقوه في الكفر بعد ذلك، لأن الكفر كان ظاهرًا عند نزول الآية، أو لأن الإفراد الذهنية تكفي في صحة الجمع. فإن الحيوان المخلوق أوّلًا يصح أن يقال إنه فرد من أفراد هذا الحيوان أي من أفراد هذه الماهية، وعلى هذا يكون إبليس أول من سن الكفر وهو قول الأكثرين.
واعلم أن الملائكة المأمورين بالسجود هم كل الملائكة عند أكثر الأئمة، لأن الجمع المعرف للعموم ويؤكده قوله: {فسجد الملائكة كلهم أجمعون} [ص: 73]. وأيضًا استثناء الشخص الواحد يدل على أن ما عداه داخل في ذلك الحكم. ومن الناس أنكر ذلك وقال: هم ملائكة الأرض استعظموا أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك، وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية، واستحالوا انقياد الأرواح السماوية للنفوس الناطقة. وقالوا: المأمورون بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة. قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن} الآية الأصح أن هذا الأمر يشتمل على ما هو إباحة لأنه كان مأذونًا في الانتفاع بجميع الجنة، وعلى ما هو تكليف وتعبد، فإن المنهي عنه كان حاضرًا. روي عن قتادة أنه قال: إن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابتلى الملائكة بالسجود، وذلك لأنه كلفه أن يكون في الجنة يأكل منها حيث يشاء، ونهاه عن شجرة واحدة أن يأكل منها، فما زال به البلاء حتى وقع فيما نهي عنه. فإسكانه موضعًا يحصل فيه ما يكون مشتهى له مع منعه عن تناوله من أشد التكاليف. وإنما لم يقل وهبت منك الجنة لأنه خلق لخلافة الأرض وكان إسكان الجنة كالتقدمة لذلك. فلو قال رجل لغيره أسكنتك داري. لا تصير الدار ملكًا له. وأجمعوا على أن المراد بالزوجة حواء وإن لم يتقدم ذكرها في هذه السورة. ففي سائر القرآن ما يدل على ذلك وإنها مخلوقة منه {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} [النساء: 1] وقال صلى الله عليه وسلم: «إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة، فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها».
وذكر السدي عن ابن عباس وابن مسعود وناس من الصحابة أن الله تعالى لما أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة حل فيها وحده وما كان معه من يستأنس به، فألقى الله تعالى عليه النوم، ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقه الأيسر ووضع مكانه لحمًا وخلق حواء منه، فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة قاعدة. فسألها من أنت؟ قالت امرأة. قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ. فقالت له الملائكة امتحانًا لعلمه: ما اسمها؟ فقال: حواء. قالوا: ولم؟ قال: لأنها خلقت من شيء حي. قيل: فلما أراد آدم مد يده إليها منعته الملائكة وقالوا: أمهرها. قال: فما صداقها؟ قالوا: أن تصلي على محمد وآله. قال: ومن محمد؟ قالوا: من أولادك خاتم النبيين ولولاه لما خلقت.
وعن ابن عباس قال: بعث الله جندًا من الملائكة فحملوا آدم وحواء عليهما السلام على سرير من ذهب كما يحمل الملوك ولباسهما النور، على كل واحد منهما إكليل من ذهب مكلل بالياقوت واللؤلؤ، وعلى آدم منطقة مكللة بالدرّ والياقوت حتى أدخل الجنة.
فهذا الخبر يدل على أن حواء خلقت قبل إدخاله الجنة، والخبر الأول دل على أنها خلقت في الجنة والله أعلم بحقيقة الحال. ثم هذه الجنة كانت في الأرض أو في السماء؟ وعلى تقدير كونها في السماء هي دار الثواب أم جنة أخرى؟ فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني: هي في الأرض وحملا الهبوط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله تعالى: {اهبطوا مصرًا} [البقرة: 61] قالا: لأن دار الثواب للخلد ولو كان في جنة الخلد لما لحقه الغرور من إبليس بقوله: {هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى} [طه: 12] ولأن من دخل هذه الجنة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وما هم منها بمخرجين} [الحجر: 48] ولأن إبليس بعد أن غضب الله عليه كيف يقدر أن يصل إلى جنة الخلد، ولأن دار الجزاء يدخل المكلف فيها بعد العمل ولا عمل لآدم وقتئذ، ولأنه تعالى خلقه في الأرض ولم يذكر نقله إلى السماء ولو كان قد نقله لكان ذكره أولى، لأن ذلك النقل من أعظم النعم. وقال الجبائي: هي في السماء السابعة، اهبط منها إلى السماء الدنيا، ثم منها إلى الأرض. وقال الجمهور: هي دار الثواب والدليل عليه أن اللام في الجنة ليست للعموم، لأن السكنى في جميع الجنان محال فهي للعهد، ولا معهود بين المسلمين إلا دار الثواب، فوجب صرف اللفظ إليها. واسكن أمر من السكنى، والسكنى من السكون لأنها نوع من اللبث والاستقرار.
و{أنت} تأكيد للمستكنّ في {اسكن} ليصح العطف عليه. و{رغدًا} وصف للمصدر أي أكلا رغدًا واسعًا رافهًا و{حيث} للمكان المبهم أي أيُّ مكان من الجنة شئتما، أو أيّ زمان شئتما، فإن {حيث} قد يعبر به عن زمان مجهول. وإنما قيل هاهنا {وكلا} بالواو وفي الأعراف {فكلا} لأن كلّ فعل عطف عليه شيء وكان بينهما رابطة السببية يعطف الثاني على الأول بالفاء وإلا فبالواو كقوله تعالى في البقرة {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا} [البقرة: 58] بالفاء، لأن الدخول سبب الوصول إلى الأكل، وكأنه قال: وإن دخلتموها أكلتم. وفي الأعراف {وإذا قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا} [الأعراف: 161] بالواو لأن السكنى وهي طول اللبث لا يختص وجوده بوجود الأكل، لأن المجتاز قد يأكل أيضًا، فلهذا لم يعطف هاهنا بالفاء إذ المراد اسكن من السكنى، وأما في الأعراف فالمراد اسكن بمعنى الدخول ثم السكون فصح العطف بالفاء. والنهي في {لا تقربا} للتنزيه أو للتحريم، الأصح الأول لأن الصيغة وردت في كليهما والأصل عدم الاشتراك فيجعل حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو ترجيح لجانب الترك على الفعل من غير دلالة على المنع من الفعل، أو الجواز.
لكن الجواز ثابت بحكم الأصل، فإن الأصل في الأشياء الإباحة، فإذا ضممنا هذا الأصل إلى مدلول اللفظ صار المجموع دليلًا على التنزيه وهذا أولى، ليرجع حاصل معصيته إلى ترك الأولى فيكون أقرب إلى عصمة الأنبياء. وقيل: نهي تحريم قياسًا على قوله: {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [البقرة: 222] وقوله: {ولا تقربوا مال اليتيم} [الأنعام: 152] ولقوله: {فتكونا من الظالمين} ولأنه استحق الإخراج من الجنة والرجوع إلى التوبة. والجواب أن التحريم في {ولا تقربوهن} [البقرة: 2] بدليل منفصل، والظلم قد يراد به ترك الأولى، والإخراج لم يكن بهذا السبب بل لما سيأتي إن شاء الله تعالى. ثم النهي عن القرب يفيد النهي عن الإكل بطريق الكناية، فإن القرب إليها من أسباب الأكل منها، ومما يدل على النهي عن الأكل صريحًا قوله: {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما} [الأعراف: 22]. وروي عن ابن عباس أن الشجرة هي البر والسنبلة، وفي رواية عنه وعن ابن مسعود أنها الكرم، وعن مجاهد وقتادة أنها التين، وعن الربيع بن أنس كانت شجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنة حدث. قال المبرد: وأحسب أن كل ما له أغصان وعيدان فالعرب تسميه شجرًا، وقد لا يختص بما له ساق قال تعالى: {وأنبتنا عليه شجرة من يقطين} [الصافات: 146] وأصل هذا أنه اسم لكل ما شجر أي أخذ يمنة ويسرة والتشاجر الاختلاف. واعلم أنه ليس في الظاهر ما يدل على التعيين، ولا حاجة أيضًا إلى بيانه. فليس المقصود تعريف الشجرة، وما لم يكن مقصودًا فذكره لا يجب على الحكيم بل يكون عبثًا، كما لو أراد أحدنا أن يقيم عذره في التخلف فقال: اشتغلت بضرب غلماني لإساءتهم الأدب. كان هذا القدر أحسن من أن يذكر عين الغلام واسمه وصفاته، فلا يظنن أحد أن هاهنا تقصيرًا في البيان.
{فتكونا} جزم عطفًا على {تقربا} ونصب جوابًا للنهي.
{من الظالمين} من الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله. قوله: {فأزلهما الشيطان} الآية. تحقيقه فأصدر الشيطان زلتهما عنهما ولفظة {عن} في هذه الآية ك {هي} في قوله: {وما فعلته عن أمري} [الكهف: 482] فالضمير للشجرة. وقيل: أذهبهما وأبعدهما كما تقول: زل عن مرتبته وزلت قدمه. فالضمير للجنة، ومن قرأ: {أزالهما} فهو من الزوال عن المكارم مما كانا فيه أي من النعيم والكرامة، أو من المكان الذي هو الجنة إن كان الضمير في {عنها} الشجرة.
واعلم أن الناس اختلفوا في عصمة الأنبياء عليهم السلام، والنزاع إما في باب الاعتقاد، أو في باب التبليغ، أو في باب الأحكام والفتيا، أو في أفعالهم وسيرتهم. أما اعتقادهم الكفر والضلال فغير جائز عند أكثر الأئمة. وقالت الفضيلية: إنه قد وقع منهم ذنوب والذنب عندهم كفر وشرك، فلا جرم قالوا بوقوع الكفر منهم. وأجازت الإمامية عليهم إظهار الكفر على سبيل التقية، وأما ما يتعلق بالتبليغ فاجتمعت الأمة على عصمتهم عن الكذب والتحريف في ذلك لا عمدًا ولا سهوًا وإلا ارتفع الوثوق.
ومنهم من جوز ذلك سهوًا لأن الاحتراز غير ممكن، وأما المتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز الخطأ فيه عمدًا، وأما السهو فجوزه بعضهم وأباه آخرون. وأما المتعلق بأفعالهم فالحشوية جوّزوا الكبائر عنهم عمدًا، وأكثر المعتزلة جوّزوا الصغائر عنهم عمدًا إلا ما ينفر كالكذب والتطفيف، والجبائي لا يجوّز صغيرة ولا كبيرة على جهة العمد بل على التأويل. وقيل: لا يقع منهم الذنب إلا على جهة السهو والخطأ، ولكنهم يؤاخذون به وإن كان ذلك موضوعًا عن أمتهم، لأن معرفتهم أقوى وهم على التحفظ أقدر. والشيعة لم يجوّزوا صغيرة ولا كبيرة منهم لا عمدًا ولا سهوًا ولا على سبيل التأويل والخطأ. وفي وقت عصمتهم ثلاثة أقوال: فمذهب الشيعة أنهم معصومون من وقت مولدهم، والمعتزلة من وقت بلوغهم ولم يجوزوا الكفر والكبيرة منهم قبل النبوة، وبعضهم وأكثر أصحابنا على تجويز ذلك قبل النبوة، والمختار أنهم لم يصدر عنهم الذنب حال النبوة لا الكبيرة ولا الصغيرة لوجوه:
الأول: لو صدر الذنب عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة مصداقه قوله عز وجل من قائل: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [الأحزاب: 30].
وصغائر الرجل الكبير كبائر... ولا يجوز أن يكون النبي أقل حالًا من الأمة بالإجماع.
والثاني: وبتقدير إقدامه على الفسق لا يكون مقبول الشهادة لقوله: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات: 6] لكنه شاهد عدل من الله بأنه شرع الدين وكذا يوم القيامة {ويكون الرسول عليكم شهيدًا} [البقرة: 143].
الثالث: وبتقدير إقدامه على الكبيرة. يجب زجره وإيذاؤه، لكنه محرّم {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة} [الأحزاب: 57].
الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم لو أتى بمعصية لوجب علينا الاقتداء به لقوله: {فاتبعوه} [الأنعام: 153] والجمع بين الوجوب والحرمة محال.
الخامس: نعلم بالبديهة أنه قبيح لا شيء أقبح من نبي رفع الله درجته وجعله خليفة في عباده وبلاده، ثم إنه يقدم على ما نهاه عنه ترجيحا لهواه حتى يستحق اللعن والعذاب. السادس: {أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44] يكون حينئذ منزلًا في شأنه، {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} [هود: 88].
السابع: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات} [الأنبياء: 90] واللفظ للعموم فيشمل فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي.
الثامن: {وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار} [ص: 47] {الله يصطفي من الملائكة رسلًا ومن الناس} [الحج: 75] والوصف بالاصطفاء ينافي الذنب.
التاسع: أنه تعالى حكى عن إبليس {لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} [ص: 82، 83] والأنبياء من المخلصين لقوله تعالى في حق يوسف {إنه من عبادنا المخلصين} [يوسف: 24] وفي حق موسى {إنه كان مخلصًا} [مريم: 51] فكذا غيرهما.
العاشر: {ولقد صدّق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقًا من المؤمنين} [سبأ: 20] ولا يخفى وجوب كون الأنبياء منهم وإلا كان غير النبي أفضل من النبي.
الحادي عشر: الخلق قسمان: حزب الله {ألا إن حزب الله هم المفلحون} [المجادلة: 22] وحزب الشيطان {ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون} [المجادلة: 19] والعصاة حزب الشيطان، فلا يجوز أن يكون النبي عاصيًا.
الثاني عشر: النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملك كما مر والملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، فالنبي أولى.
الثالث عشر: {إني جاعلك للناس إمامًا} [البقرة: 124] والإمام من يؤتم به والمذنب لا يجوز الاقتداء به في ذنبه.
الرابع عشر: {لا ينال عهدي الظالمين} [البقرة: 124] فإن كان عهد النبوة ثبت المطلوب، وإن كان عهد الإمامة فالنبي أولى به، روي أن خزيمة بن ثابت شهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق دعواه فقال صلى الله عليه وسلم: «كيف شهدت لي؟» فقال: يا رسول الله إني أصدقك على الوحي النازل عليك من فوق سبع سموات، أفلا أصدقك في هذا القدر؟ فصدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وسماه بذي الشهادتين ولو كانت المعصية جائزة على الأنبياء لما جازت تلك الشهادة.
المخالف تمسك في باب الاعتقاد بقوله: {هو الذي خلقكم من نفس واحدة} [الأعراف: 189] إلى قوله: {جعلا له شركاء} [الأعراف: 190] وهذا يقتضي صدور الشرك عنهما. والجواب ما سيجيء في الأعراف إن شاء الله تعالى، من أن الخطاب لقريش والمعنى: خلقكم من نفس قضى وجعل من جنسها زوجة عربية ليسكن إليها، فلما آتاهما ما طلبا من الولد الصالح سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد الدار وعبد قصي. قالوا: إن إبراهيم لم يكن عالمًا بالله ولا باليوم الآخر لقوله: {هذا ربي} [الأنعام: 77] {ولكن ليطمئن قلبي} [البقرة: 260] والجواب: هذا ربي استفهام منه بطريق الإنكار وقوله: {ليطمئن قلبي} أراد به أن يؤكد علم اليقين بعين اليقين فليس الخبر كالمعاينة. قالوا: {فإن كنت في شك} [يونس: 94] {فلا تكونن من الممترين} [البقرة: 147] يدل على أنه كان شاكًا في الوحي قلنا: الخطاب له والمراد الأمة مثل {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} [الطلاق: 1]. قالوا في باب التبليغ {سنقرئك فلا تنسى إلاّ ما شاء الله} [الأعلى: 6، 7] هذا الاستثناء يدل على النسيان. والجواب عنه أن هذا النسيان نوع من النسخ كما يجيء في تفسير قوله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها} [البقرة: 106]. قالوا {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته} [الحج: 52] والجواب سوف يجيء في سورة الحج إن شاء الله تعالى قالوا: {عالم الغيب فلا يظهر} إلى قوله: {ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم} [الجن: 26- 28] ولولا الخوف من وقوع التخبيط في الوحي لم يستظهر بالرصد، قلنا هذا عليكم لا لكم لدلالته على كونهم محفوظين عن التخبط.
قالوا في باب الفتيا {وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث} [الأنبياء: 78] {وما كان لنبي أن يكون له أسرى} [الأنفال: 67] {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] قلنا: الجميع محمول على ترك الأولى، وسوف يجيء قصة كل في موضعها على أنا نقول شعرًا:
يا سائلي عن رسول الله كيف سها ** والسهو من كل قلب غافل لاهي

قد غاب عن كل شيء سره فسها ** عما سوى الله فالتعظيم لله

فشغل الأدبي عن الأرفع هو المذموم، وأما الشغل بالأرفع عن الأدنى فمحمود. قالوا في الأفعال {وعصى آدم ربه فغوى} [طه: 121] والعصيان يوجب الوعيد {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} [الجن: 23] والغي ضد الرشد {قد تبين الرشد من الغي} [البقرة: 256]، ثم إنه تاب والتوبة دليل الذنب، وإنه ظالم لقوله: {فتكونا من الظالمين} والظالم ملعون {ألا لعنة الله على الظالمين} [هود: 18] وأنه أخرج من الجنة، وكل هذه دليل ارتكاب الكبيرة. والجواب، المنع من أن هذه الأمور كانت بعد النبوة. ثم لنفرض أنه صدر ذلك الفعل عن آدم بعد النبوة، فإقدامه عليه إما أن يكون في حال كونه ناسيًا، أو في حال كونه ذاكرًا، الذاهبون إلى الأول وهم طائفة من المتكلمين احتجوا بقوله: {فنسي ولم نجد له عزمًا} [طه: 115] ومثلوه بالصائم يغفل عن صومه فيأكل في أثناء ذلك السهو عن قصد. قيل عليه إن قوله: {ما نهاكما وبكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} [الأعراف: 20] وقوله: {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21] يدل على أنه ما نسي وروي عن ابن عباس أنهما لما أكلا منها وبدت لهما سوآتهما، خرج آدم فتعلقت به شجرة من شجر الجنة فحبسته فناداه الله تعالى: أفرارًا مني؟ فقال: بل حياء منك. فقال له: أما كان فيما منحتك من الجنة مندوحة مما حرمت عليك؟ قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك بما كنت أرى أحدًا يحلف بك كاذبًا، فقال: وعزتي لأهبطنك منها ثم لا تنال العيش إلا نكدًا. وأيضًا لو كان ناسيًا لما عوتب عليه لأنه قادر على تركه ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، رفع القلم عن ثلاث. وأجيب بالمنع من أن إقدامه على ذلك الفعل إنما وقع عقيب قول إبليس، لأنه كان عالمًا بتمرد إبليس عن سجوده وكونه عدوًا له ولزوجه، ولأنهما لو صدقاه لكانت المعصية في تصديقه أعظم من أكل الشجرة، لأنه ألقى إليهما سوء الظن بالله وأنه ناصح والرب غاش.
وما روي عن ابن عباس فهو من باب الآحاد ولا يلزم من رفع النسيان عن هذه الأمة رفعه عن غيرهم، بل لا يلزم من رفعه عن الأمة رفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل»، «إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم» وقيل: إن حواء سقته الخمر فسكر ثم أقدم على ذلك الفعل، وهذا إنما يصح إذا حملت الشجرة على غير الكرمة حتى يكون مأذونًا في تناول غيرها، إلا أنه يرد عليه أن خمر الجنة لا تسكر {لا فيها غول} [الصافات: 47].
الذاهبون إلى أنه فعله عامدًا أربع فرق: منهم من قال: النهي نهي تنزيه لا تحريم وقد سبق. ومنهم من قال: كان عمدًا من آدم وكان كبيرة مع أن آدم في ذلك الوقت كان نبيًا، وقد عرفت فساده. ومنهم من قال: فعله عمدًا لكن كان معه من أعمال القلب من الإخلاص والوجل والإشفاق ما صيره صغيرة، وزيف بأن المقدم على ترك الواجب أو فعل المنهي عمدًا لا يعذر بدعوى الخوف، فلا يصح وصف الأنبياء بذلك. ومنهم- وهو اختيار أكثر المعتزلة- من قال: إنه أقدم على الأكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذنب كبيرة، بيان الاجتهاد أنه لما قيل له {ولا تقربا هذه الشجرة} فلفظ {هذه} قد يشار بها إلى الشخص، وقد يشار بها إلى النوع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ حريرًا وذهبًا بيده وقال: «هذان حرامان على ذكور أمتي» وتوضأ ثم قال: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» وأراد نوع الحرير والذهب، ونوع الوضوء. فمراد الله تعالى من كلمة {هذا} ذلك النوع لا الشخص. وكان آدم ظن أن النهي قد ورد على الشجرة المعينة فتركها، وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع. واعترض بأن هذا في أصل اللغة للإشارة الشخصية، وإذا حمل آدم اللفظ على موضوعه فكيف يعد مخطئًا؟ وأيضًا هب أن لفظ {هذا} متردد بين الشخص والنوع، فإن كان مع قرينة الإشارة النوعية وقد قصر في معرفتها فيكون مذنبًا، وإن عرفها ومع ذلك أقدم على التناول فكذلك، وإن لم يكن فيه قرينة فلا يعد مخطئًا. وأيضًا الأنبياء لا يجوز لهم الاجتهاد لأنهم قادرون على تحصيل اليقين بالوحي، فالإقدام على الاجتهاد عين المعصية. وأيضًا هذه المسألة إن كانت قطعية فالخطأ فيها كبيرة، وإن كانت من الظنيات فإن قلنا: كل مجتهد مصيب. فلا خطأ، وإن قلنا المصيب واحد فالمخطئ فيها معذور بالاتفاق. وأجيب بأن لفظ {هذا} يستعمل في الإشارة النوعية أيضًا كما مر، وبأن آدم لعله قصر في معرفة القرينة أو عرفها ثم نسي لطول المدة، فلهذا عوتب. وبأن المسألة القطعية لما نسيها صار النسيان عذرًا حتى لا يصير الذنب كبيرًا، وقد تكون ظنية وترتب التشديدات على الخطأ فيها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد يؤاخذ بما لا يؤاخذ به الأمة.
قيل: وقد يحمل الخطأ في الاجتهاد من جهة أن آدم ظن أن المنهي في قوله: {لا تقربا} تناولهما معًا، فيجوز لكل واحد على الانفراد أكله.
فإن قيل: كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم مع أن إبليس كان خارج الجنة وآدم فيها؟ قلت: إما لأنه دخل فم الحية خافيًا عن الخزنة ولهذا سقطت قوائم الحية عقوبة لها على ما يروى- وإن كان بعيدًا- عن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما سالمناهم منذ حاربناهم، ومن ترك منهم شيئًا خيفة فليس منا. يعني الحيات. وإما لأنه دخل الجنة في صورة دابة، وإما لأنهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان يقرب من الباب ويوسوس، وإما لأنه كان يدنو من السماء فيكلمهما. وقيل وسوس لهما على لسان بعض أتباعه لأنهما كانا يعرفان ما عنده من الحسد والبغضاء فيستحيل أن يقبلا قوله عادة.
وإسناد الإذلال والإخراج إلى الشيطان لأنه حصل بسبب منه، وعن بعض العرفاء أن زلة آدم هب أنها كانت وسوسة إبليس، فمعصية إبليس بوسوسة من؟ ولابد من الانتهاء إلى الذي لا يسأل عما يفعل. فإن قيل: كيف كانت الوسوسة؟ قلنا: هي التي حكاها الله تعالى: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين} [الأعراف: 20] فلما لم يفد عدل إلى اليمين {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين} [الأعراف: 21] ولكم من شياطين الإنس تراهم يوسوسون إليك على هذا الترتيب أعاذنا الله منهم. ثم بعد ذلك يحتمل أنهما لم يصدقاه فعدل إلى شغلهما باللذات المباحة حتى استغرقا فيها ونسيا النهي فوقعا فيما وقعا والله أعلم بحقائق الأمور.
{اهبطوا} خطاب لآدم وحواء وإبليس إما في وقت واحد بناء على أن إبليس قد عاد إلى الجنة لأجل الوسوسة، وإما لآدم وحواء في وقت وله في آخر قبل ذلك، وقيل: خطاب لهما وللحية. وقيل: الصحيح أن الخطاب لهما وذريتهما مرادة أيضًا لأنهما لما كانا أصل الإنس جعلا كأنهما الناس كلهم، والدليل عليه ما جاء في طه {اهبطا منها} [طه: 123] وقوله: {فإما يأتينكم} [طه: 123] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم. و{اهبطوا} أمر أو إباحة. والأشبه الأول لأن مفارقة ما كانا فيه من النعيم إلى دار الهوان أشق التكاليف. وإنما قيل: إنه تكليف لا عقوبة لما ترتب عليه من الثواب العظيم. ويمكن أن يقال: نفس الإهباط عقوبة ولا ثواب عليه، وإنما الثواب على حسب العمل بعد ذلك. ومعنى {بعضكم لبعض عدو} [طه: 123] ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم لبعض. وليست هذه هي العداوة المأمور بها في قوله: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} [فاطر: 6] فلا يدخل تحت الأمر، بل المراد اهبطوا وسيكون حالكم كذا، لأن عالم التضاد والتنافي ليس كعالم الأنوار الذي لا تعاند فيه ولا تمانع {مستقر} استقرار أو موضع استقرار حالتي الحياة والموت.
{ومتاع} تمتع بالعيش {إلى حين} هو يوم القيامة، أو حين انقضاء آجالكم. والحين المدة طويلة أو قصيرة، ولهذا لو قال: أنت طالق إلى حين. فمضت لحظة طلقت. وفي قصة آدم وما جرى عليه بسبب الزلة معتبر عجيب وموعظة بليغة بينة كافية في اجتناب الخطايا واتقاء المآثم، ولله در القائل:
يا ناظرًا يرنو بعيني راقد ** ومشاهدًا للأمر غير مشاهد

تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي ** درك الجنان ودرك فوز العابد

أنسيت أن الله أخرج آدمًا ** منها إلى الدنيا بذنب واحد

وعن فتح الموصلي: كنا قومًا من أهل الجنة فساقنا إبليس إلى الدنيا، فليس لنا إلا الهم والحزن حتى نرد إلى الدار التي أخرجنا منها.
تطلب الراحة في دار العنا ** خاب من يطلب شيئًا لا يكون

قوله: {فتلقى} الآية. أصل التلقي التعرض للقاء، ثم يوضع موضع الاستقبال للشيء الجائي، ثم يوضع موضع القبول، والأخذ {وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم} [النمل: 6] أي تلقنه، ثم بعض الأفعال قد يشترك فاعله ومفعوله في صلاحية وصف كل منهما بالفعل فيتعاوضان عمله فيهما. تقول: بلغني ذاك وبلغته، وأصابني خير أو نالني وأصبته أو نلته {وتلقى آدم من ربه كلمات} أي أخذها ووعاها واستقبلها بالقبول وتلقى آدم كلمات أي جاءته واتصلت به، ولا يجوز أن يكون معنى التلقي من الرب، أن الله تعالى عرفه حقيقة التوبة لأن المكلف لابد أن يعرف ماهية التوبة، ويتمكن بعقله من تدارك الذنوب فضلًا عن الأنبياء فإذن المراد أنه نبهه على المعصية على وجه آل أمره إلى التوبة، أو عرّفه وجوب التوبة وكونها مقبولة، أو ذكره نعمته العظيمة عليه حتى صار من الدواعي القريبة إلى التوبة، أو علمه كلمات لو حصلت التوبة معهن كمل حالها من قوله تعالى: {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] الآية. وفي رواية ابن عباس أن آدم قال: يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى. قال: يا رب ألم تسبق رحمتك غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا رب إن تبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنة؟ قال: نعم. وقال النخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علم الله آدم وحوّاء أمر الحج فحجا، فهي الكلمات التي تقال في الحج، فلما فرغا من الحج أوحى الله تعالى إليهما إني قبلت توبتكما. وعن ابن مسعود: إن أحب الكلام إلى الله ما قاله أبونا حين اقترف الخطيئة «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك وتعالى جدك، لا إله إلا أنت، ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت».
وقالت عائشة: لما أراد تعالى أن يتوب على آدم عليه السلام طاف بالبيت سبعًا، والبيت يومئذ ربوة حمراء، فلما صلى الركعتين استقبل البيت وقال: اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وتعلم حاجتي فاعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسألك إيمانًا يباشر قلبي، ويقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، وأرضني بما قسمت لي. فأوحى الله تعالى إلى آدم: يا آدم، قد غفرت لك ذنبك، ولن يأتيني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت ذنبه وكشفت همومه وغمومه ونزعت الفقر من عينيه وجاءته الدنيا وهو لا يريدها. وفي كلام الغزالي: أن التوبة تتحقق من ثلاثة أمور مترتبة: أولها علم، وثانيها حال، وثالثها عمل. فالعلم هو معرفة ما في الذنب من الضرر، وكونه حجابًا بين العبد ورحمة الرب، فإذا استحكمت هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوات محبوبه، وتأسف على الفعل الذي كان سببًا لذلك الفوات. ويسمى ذلك التأسف ندمًا، وهذه الحالة لها تعلق بالماضي وهو تلافي ما فات بالجبر والقضاء إن كان قابلًا للجبر، وتعلق بالحال وهو ترك الذنب الذي كان ملابسًا له، وتعلق بالمستقبل وهو العزم على أن لا يعود إليه أبدًا. وكثيرًا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده، ويجعل العلم السابق كالمقدمة، والترك اللاحق كالثمرة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الندم توبة» وجميع هذه الأمور بتوفيق الله ولطفه إنه هو التوّاب الرحيم. والتوبة لغة الرجوع فيشترك فيه الرب والعبد، فإذا وصف بها العبد فالمعنى راجع إلى ربه لأن العاصي هارب عن ربه، وقد يفارق الرجل خدمة سيده فيقطع السيد معروفه عنه، فإذا عاد إلى السيد عاد السيد عليه بإحسانه ومعروفه، وهذا معنى قبول التوبة من الله وغفران ذنوب العباد «التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
ومعنى المبالغة في الثواب أن واحدًا من ملوك الدنيا إذا عصاه إنسان ثم تاب قبل توبته، ثم إذا عاد إلى المعصية وإلى الاعتذار فربما لم يقبل عذره لأن طبعه يمنعه من قبول العذر، والله تعالى بخلاف ذلك لأنه إنما يقبل التوبة لا لأمر يرجع إلى رقة طبع أو جلب نفع أو دفع ضر، بل لمحض الإحسان واللطف والرحمة والجود، فإن فيضه لا ينقطع ولا تقصير إلا من القابل، فكلما ارتفع المانع من قبل القابل وصل الفيض إليه لا محالة. وأيضًا يستحق المبالغة من جهة أخرى وهي كثرة عدد المذنبين المستلزمة لكثرة التائبين المستتبعة لكثرة قبول التوبة ووصفه بالرحمة. روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لو جمع بكاء أهل الدنيا إلى بكاء داود لكان بكاء داود أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود إلى بكاء نوح لكان بكاء نوح أكثر، ولو جمع بكاء أهل الدنيا وبكاء داود وبكاء نوح إلى بكاء آدم على خطيئته لكان بكاء آدم أكثر، وإذا آل حال أبينا إلى هذا من خطيئة واحدة فمن أحاطت به خطاياه أحق بالبكاء».
ولذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم: «إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» فنحن أحق بالاستغفار، فإن الغين يكاد يكون بالنسبة إلينا رينًا، وذلك أن الغين شيء يغين أي يغشى القلب ويغطيه بعض التغطية كالغيم الرقيق لا يحجب الشمس، ولكن يمنع كمال ضوئها. والرين ما استحكم من ذلك حتى صار القلب ممتنعًا بالكلية عن قبول الحق وذلك صفة الكفار {كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} [المطففين: 14]. قيل في تأويل الحديث: إن الله تعالى أطلع نبيه على ما سيكون في أمته من الخلاف والشقاق، وكان إذا ذكر ذلك وجد غينًا في قلبه فاستغفر لأمته. قيل: كان ينتقل من حالة إلى حالة أرفع من الأولى فيستغفر مما كان. وقيل: الغين عبارة عن السكر الذي كان يلحقه في طريق المحبة حتى يصير فانيًا عن نفسه بالكلية، فإذا عاد إلى الصحو استغفر من ذلك الصحو، وهذا تأويل أرباب الحقيقة. وقال أهل الظاهر: إن القلب لا ينفك عن الخطرات والشهوات وأنواع الإرادات، فكان يستعين بالرب تعالى في دفع تلك الخواطر. وعن ثابت البناني: بلغنا أن إبليس قال: يا رب، إنك خلقت آدم وجعلت بيني وبينه عداوة فسلطني عليه. فقال سبحانه جعلت صدورهم مساكن لك. فقال: رب زدني. فقال: لا يولد ولد لآدم إلا ولد لك عشرة. قال: رب زدني. قال: تجري منه مجرى الدم. قال: رب زدني. قال: اجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد. قال: فشكا آدم إلى ربه فقال: يا رب إنك خلقت إبليس وجعلت بيني وبينه عداوة وبغضاء وسلطته علي وأنا لا أطيقه إلا بك. فقال الله تعالى: لا يولد ولد إلا وكلت به ملكين يحفظانه من قرناء السوء. قال: رب زدني. قال: الحسنة بعشر أمثالها. قال: رب زدني. قال: لا أحجب عن أحد من ولدك التوبة ما لم يغرغر، والغرغرة تردد الروح في الحلق. وسئل ذو النون عن التوبة فقال: إنها اسم جامع لمعان ستة: أولها الندم على ما مضى، وثانيها العزم على ترك الذنوب في المستقبل، وثالثها أداء كل فريضة ضيعتها فيما بينك وبين الله، والرابع أداء المظالم إلى المخلوقين في أموالهم وأعراضهم، والخامس إذابة كل لحم ودم نبت من الحرام، والسادس إذاقة البدن مرارة الطاعات كما ذاق حلاوة المعاصي. وكان أحمد ابن الحرث يقول: يا صاحب الذنوب ألم يأن لك أن تتوب، يا صاحب الذنوب إن الذنب في الديوان مكتوب، يا صاحب الذنوب أنت بها في القبر مكروب، يا صاحب الذنوب أنت غدًا بالذنوب مطلوب.
وإنما اكتفى بذكر توبة آدم دون توبة حواء لأنها كانت تبعًا له كما طوى ذكر النساء في أكثر القرآن والسنة لذلك على أنها قد ذكرت في موضع آخر {قالا ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] الآية.
قوله: {قلنا اهبطوا} الآية. قيل: فائدة تكرير الأمر بالهبوط أنهما هبوطان: الأول من الجنة إلى السماء الدنيا، والثاني من السماء الدنيا إلى الأرض. وضعف بأنه لو كان كذلك لكان ذكر قوله: {ولكم في الأرض مستقر} عقيب الهبوط الثاني أولى. وأيضًا قوله: {منها} يدل على أن الهبوط الثاني أيضًا من الجنة والأوجه أن آدم وحواء لما أتيا بالزلة وتابا بعد الأمر بالهبوط، وقع في قلبهما أن الأمر بالهبوط يرتفع بزوال الزلة، فأعيد الأمر مرة ثانية ليعلما أن حكمه باقٍ تحقيقًا للوعد المتقدم في قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} ووجه ثالث وهو أن يكون التكرير للتأكيد، ولما نيط به من زيادة قوله: {فإما يأتينكم} روي في الأخبار أن آدم هبط بجزيرة سرنديب من الهند، وحواء بجدة من أرض الحجاز، وإبليس بالأيلة من نواحي البصرة، والحية بأصفهان، فلم يتلاقيا مائة سنة، ثم ازدلفا أي تقاربا بالمزدلفة، واجتمعا بجمع وتعارفا بعرفات يوم عرفة، وتمنيا على الله تعالى المغفرة والتوبة بمنى، فحصلت أسماء هذه المواضع من هذه المعاني. وما في {إما} مزيدة لتأكيد الشرط ويؤيده لحوق النون المؤكدة والشرط الثاني وجزاؤه مجموعين جواب الشرط الأول. تبع واتبع بمعنى، وإنما جاء في طه {فمن اتبع} [طه: 123] موافقة لقوله فيها {يتبعون الداعي} [طه: 108] وفي الهدى وجهان: أحدهما المراد منه كل دلالة وبيان فيدخل فيه دليل العقل وكل كلام ينزل على نبي، وفيه تنبيه على نعمة أخرى عظيمة فكأنه قال: وإذ قد أهبطتكم من الجنة إلى الأرض فقد أنعمت عليكم بما يؤديكم مرة أخرى: إلى الجنة مع الدوام الذي لا ينقطع. عن الحسن: لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى الله تعالى إليه: يا آدم، أربع خصال فيها كل الأمر لك ولولدك: واحدة لي، وواحدة لولدك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين الناس. أما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئًا وأما التي لك فإذا عملت آجرتك، وأما التي بيني وبينك فعليك الدعاء وعلى الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فأن تصحبهم بما تحب أن يصحبوك به. وقيل: هو رسول وكتاب بدليل {والذين كفروا كذبوا بآياتنا} [البقرة: 39] في مقابلة {فمن تبع هداي} في الإقدام على ما يلزم والإحجام عما يحرم فإنه سيصير إلى حالة لا خوف فيها ولا حزن. وهذه الجملة مع اختصارها تجمع شيئًا كثيرًا من المعاني، لأن قوله: {فإما يأتينكم مني هدى} دخل فيه الإنعام بجميع الأدلة العقلية والشرعية وزيادة البيان، وجميع ما لا يتم ذلك إلا به من العقل ووجوه التمكين.
وجمع قوله: {فمن تبع هداي} تأمل الأدلة بحقها والنظر فيها واستنتاج المعارف منها والعمل بها، وجمع قوله: {فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} جميع ما أعد الله تعالى لأوليائه، لأن الخوف ألم يحصل للنفس من توقع مكروه، أو انتظار محذور، وزواله يتضمن السلامة من جميع الآفات. والحزن ألم يعرض للنفس لفقد محبوب أو فوات مطلوب، ونفيه يقتضي الوصول إلى كل اللذات والمرادات. وإنما قدم عدم الخوف على عدم الحزن لأن زوال ما لا ينبغي مقدم على حصول ما ينبغي، وهذا يدل على أن المكلف الذي أطاع الله تعالى لا يلحقه خوف عند الموت، ولا في القبر، ولا عند البعث، ولا عند حضور الموقف، ولا عند تطاير الكتب، ولا عند نصب الميزان، ولا عند الصراط {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} [فصلت: 30] وقال قوم من المتكلمين: إن أهوال يوم القيامة تعم الكفار والفساق والمؤمنين بدليل قوله تعالى: {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى} [الحج: 2] {فكيف تتقون إن كفرتم يومًا يجعل الولدان شيبًا} [المزمل: 17] {يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم} [المائدة: 109] {فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين} [الأعراف: 6] وفي الحديث: «تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق فمنهم من يكون إلى كعبه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى فيه» وحديث الشفاعة وقول كل نبي «نفسي نفسي» إلا نبينا صلى الله عليه وسلم فإنه يقول: «أمتي أمتي» مشهور.
قلت: لا ريب أن وعد الله حق، فمن وعده الأمن يكون آمنًا لا محالة، إلا أن الإنسان خلق ضعيفًا لا يستيقن الأمن الكلي ما لم يصل إلى الجنة، لأنه لا يطمئن قلبه ما لم ينضم له إلى علم اليقين عين اليقين، وأيضًا إن جلال الله وعظمته يدهش الإنسان برًا كان أو فاجرًا. وأيضًا ظاهر العمل الصالح لا يفيد اليقين بالجنة، فلا عمل إلا بالإخلاص، ولا حكم بالإخلاص إلا لله تعالى، لأنه من عمل القلب وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء. ولهذا جاء: والمخلصون على خطر عظيم وكان دأب الصدّيقين أن يخلطوا الطمع بالخوف، والرغبة بالرهية، {يدعون ربهم خوفًا وطمعًا} [السجدة: 16] {ويدعوننا رغبًا ورهبًا} [الأنبياء: 90] وقيل: {لا خوف عليهم} [يونس: 62] أمامهم فليس شيء أعظم في صدر الذي يموت مما بعد الموت، فآمنهم الله تعالى ثم سلاهم فقال لهم: {ولا هم يحزنون} [يونس: 62] على ما خلفوه بعد وفاتهم في الدنيا. ثم إن الأئمة خصصوا نفي الخوف والحزن بالآخرة، لأن مجاري الأمور في الدنيا لا تخلو من مواجب الخوف والحزن. وقال صلى الله عليه وسلم: «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» قلنا: المؤمن الراضي بقضاء الله وقدره لا يرى شيئًا من المكاره مكروهًا، وإنما مراده مراد حبيبه {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا} [النساء: 65] فبترك الإرادة يصح نسبة العبودية، وبالرضوان يحصل مفاتيح الجنان، وتنكشف الهموم والأحزان، ويتساوى الفقر والوجدان، وتثبت حقيقة الإيمان {والذين كفروا} لجحدهم مولاهم {وكذبوا بآياتنا} لإثباتهم حكمًا لهم بحسب مشتهاهم وهواهم {أولئك أصحاب النار} وملازموها دائمًا سرمدًا سواء كانوا من الإنس أو من الجن، أعاذنا الله منها بعميم فضله وجسيم طوله. اهـ.